قصة الأعمى
الزيارات:

Unknown | 12:29 م |
لم أكن جاوزت الثلاثين حين أنجبتزوجتي أوّل أبنائي.. 
ما زلت أذكر تلك الليلة .. بقيت إلىآخر الليل مع الشّلة في إحدىالاستراحات .. 
كانت سهرة مليئة بالكلام الفارغ .. بلبالغيبة والتعليقات المحرمة .. 
كنت أنا الذي أتولى في الغالبإضحاكهم .. وغيبة الناس .. وهميضحكون .. 
أذكر ليلتها أنّي أضحكتهم كثيراً.. 
كنت أمتلك موهبة عجيبة في التقليد.. 
بإمكاني تغيير نبرة صوتي حتىتصبح قريبة من الشخص الذي أسخرمنه .. 
أجل كنت أسخر من هذا وذاك .. لميسلم أحد منّي حتى أصحابي .. 
صار بعض الناس يتجنّبني كي يسلممن لساني .. 
أذكر أني تلك الليلة سخرت من أعمىرأيته يتسوّل في السّوق.. والأدهىأنّي وضعت قدمي أمامه فتعثّروسقط يتلفت برأسه لا يدري ما يقول.. وانطلقت ضحكتي تدوي في السّوق.. 
عدت إلى بيتي متأخراً كالعادة .. 
وجدت زوجتي في انتظاري .. كانتفي حالة يرثى لها .. 
قالت بصوت متهدج : راشد .. أينكنتَ ؟ 
قلت ساخراً : في المريخ .. عندأصحابي بالطبع .. 
كان الإعياء ظاهراً عليها .. قالتوالعبرة تخنقهاراشد… أنا تعبة جداً ..الظاهر أن موعد ولادتي صار وشيكا.. 
سقطت دمعة صامته على خدها .. 
أحسست أنّي أهملت زوجتي .. 
كان المفروض أن أهتم بها وأقلّل منسهراتي .. خاصة أنّها في شهرهاالتاسع .. 
حملتها إلى المستشفى بسرعة .. 
دخلت غرفة الولادة .. جعلت تقاسيالآلام ساعات طوال .. 
كنت أنتظر ولادتها بفارغ الصبر ..تعسرت ولادتها .. فانتظرت طويلاًحتى تعبت .. فذهبت إلى البيت .. 
وتركت رقم هاتفي عندهم ليبشروني.. 
بعد ساعة .. اتصلوا بي ليزفوا لي نبأقدوم سالم .. 
ذهبت إلى المستشفى فوراً .. 
أول ما رأوني أسأل عن غرفتها .. 
طلبوا منّي مراجعة الطبيبة التيأشرفت على ولادة زوجتي .. 
صرختُ بهم : أيُّ طبيبة ؟المهم أنأرى ابني سالم .. 
قالوا .. أولاً .. راجع الطبيبة .. 
دخلت على الطبيبة .. كلمتني عنالمصائب .. والرضى بالأقدار .. 
ثم قالت : ولدك به تشوه شديد فيعينيه ويبدوا أنه فاقد البصر !! 
خفضت رأسي .. وأنا أدافع عبراتي ..تذكّرت ذاك المتسوّل الأعمى .. الذيدفعته في السوق وأضحكت عليهالناس .. 
سبحان الله كما تدين تدان ! بقيتواجماً قليلاً .. لا أدري ماذا أقول .. ثمتذكرت زوجتي وولدي .. 
فشكرت الطبيبة على لطفها ..ومضيت لأرى زوجتي .. 
لم تحزن زوجتي .. كانت مؤمنةبقضاء الله .. راضية .. طالما نصحتنيأن أكف عن الاستهزاء بالناس .. 
كانت تردد دائماً .. لا تغتب الناس .. 
خرجنا من المستشفى .. وخرج سالممعنا .. 
في الحقيقة .. لم أكن أهتم به كثيراً.. 
اعتبرته غير موجود في المنزل .. 
حين يشتد بكاؤه أهرب إلى الصالةلأنام فيها .. 
كانت زوجتي تهتم به كثيراً .. وتحبّهكثيراً .. 
أما أنا فلم أكن أكرهه .. لكني لمأستطع أن أحبّه ! 
كبر سالم .. بدأ يحبو .. كانت حبوتهغريبة .. 
قارب عمره السنة فبدأ يحاول المشي.. فاكتشفنا أنّه أعرج .. 
أصبح ثقيلاً على نفسي أكثر .. 
أنجبت زوجتي بعده عمر وخالداً .. 
مرّت السنوات .. وكبر سالم .. وكبرأخواه .. 
كنت لا أحب الجلوس في البيت ..دائماً مع أصحابي .. 
في الحقيقة كنت كاللعبة في أيديهم.. 
لم تيأس زوجتي من إصلاحي.. 
كانت تدعو لي دائماً بالهداية .. لمتغضب من تصرّفاتي الطائشة .. 
لكنها كانت تحزن كثيراً إذا رأتإهمالي لسالم واهتمامي بباقي إخوته.. 
كبر سالم .. وكبُر معه همي .. 
لم أمانع حين طلبت زوجتي تسجيلهفي أحدى المدارس الخاصة بالمعاقين.. 
لم أكن أحس بمرور السنوات .. أيّاميسواء .. عمل ونوم وطعام وسهر .. 
في يوم جمعة .. 
استيقظت الساعة الحادية عشرظهراً.. 
ما يزال الوقت مبكراً بالنسبة لي ..كنت مدعواً إلى وليمة .. 
لبست وتعطّرت وهممت بالخروج .. 
مررت بصالة المنزل .. استوقفنيمنظر سالم .. كان يبكي بحرقة ! 
إنّها المرّة الأولى التي أنتبه فيها إلىسالم يبكي منذ كان طفلاً .. عشرسنوات مضت .. لم ألتفت إليه ..حاولت أن أتجاهله .. فلم أحتمل ..كنت أسمع صوته ينادي أمه وأنا فيالغرفة .. 
التفت .. ثم اقتربت منه .. قلت : سالملماذا تبكي ؟
حين سمع صوتي توقّف عن البكاء ..فلما شعر بقربي .. 
بدأ يتحسّس ما حوله بيديهالصغيرتين .. ما بِه يا ترى؟
اكتشفت أنه يحاول الابتعاد عني !! 
وكأنه يقول : الآن أحسست بي .. أينأنت منذ عشر سنوات ؟
تبعته .. كان قد دخل غرفته .. 
رفض أن يخبرني في البداية سبببكائه .. 
حاولت التلطف معه .. 
بدأ سالم يبين سبب بكائه .. وأناأستمع إليه وأنتفض .. تدري ما السبب!! 
تأخّر عليه أخوه عمر .. الذي اعتاد أنيوصله إلى المسجد .. 
ولأنها صلاة جمعة .. خاف ألاّ يجدمكاناً في الصف الأوّل .. 
نادى عمر .. ونادى والدته .. ولكن لامجيب .. فبكى .. أخذت أنظر إلىالدموع تتسرب من عينيه المكفوفتين.. 
لم أستطع أن أتحمل بقية كلامه .. 
وضعت يدي على فمه .. وقلت : لذلكبكيت يا سالم !!.. 
قال : نعم .. 
نسيت أصحابي .. ونسيت الوليمة ..وقلت : 
سالم لا تحزن .. هل تعلم من سيذهببك اليوم إلى المسجد؟ .. 
قال : أكيد عمر .. لكنه يتأخر دائماً .. 
قلت : لا .. بل أنا سأذهب بك .. 
دهش سالم .. لم يصدّق .. ظنّ أنّيأسخر منه .. استعبر ثم بكى .. 
مسحت دموعه بيدي .. وأمسكت يده.. 
أردت أن أوصله بالسيّارة .. رفض قائلاًالمسجد قريب .. أريد أن أخطو إلىالمسجد .. - إي والله قال لي ذلك - .. 
لا أذكر متى كانت آخر مرّة دخلتفيها المسجد .. 
لكنها المرّة الأولى التي أشعر فيهابالخوف .. والنّدم على ما فرّطتهطوال السنوات الماضية .. 
كان المسجد مليئاً بالمصلّين .. إلاّ أنّيوجدت لسالم مكاناً في الصف الأوّل ..
استمعنا لخطبة الجمعة معاً وصلىبجانبي .. بل في الحقيقة أنا صليتبجانبه .. 
بعد انتهاء الصلاة طلب منّي سالممصحفاً .. 
استغربت !! كيف سيقرأ وهو أعمى ؟ 
كدت أن أتجاهل طلبه .. لكني جاملتهخوفاً من جرح مشاعره .. ناولتهالمصحف .. 
طلب منّي أن أفتح المصحف علىسورة الكهف.. 
أخذت أقلب الصفحات تارة .. وأنظرفي الفهرس تارة .. حتى وجدتها .. 
أخذ مني المصحف .. ثم وضعه أمامه.. وبدأ في قراءة السورة .. وعيناهمغمضتان .. 
يا الله !! إنّه يحفظ سورة الكهف كاملة!! 
خجلت من نفسي.. أمسكت مصحفاً .. 
أحسست برعشة في أوصالي.. قرأت.. وقرأت.. 
دعوت الله أن يغفر لي ويهديني .. 
لم أستطع الاحتمال .. فبدأت أبكيكالأطفال .. 
كان بعض الناس لا يزال في المسجديصلي السنة .. خجلت منهم ..فحاولت أن أكتم بكائي .. تحولالبكاء إلى نشيج وشهيق .. 
لم أشعر إلاّ بيد صغيرة تتلمس وجهي.. ثم تمسح عنّي دموعي .. 
إنه سالم !! ضممته إلى صدري .. 
نظرت إليه .. قلت في نفسي .. لستأنت الأعمى .. بل أنا الأعمى .. حينانسقت وراء فساق يجرونني إلى النار.. 
عدنا إلى المنزل .. كانت زوجتي قلقةكثيراً على سالم .. 
لكن قلقها تحوّل إلى دموع حينعلمت أنّي صلّيت الجمعة مع سالم .. 
من ذلك اليوم لم تفتني صلاة جماعةفي المسجد .. 
هجرت رفقاء السوء .. وأصبحت ليرفقة خيّرة عرفتها في المسجد.. 
ذقت طعم الإيمان معهم .. 
عرفت منهم أشياء ألهتني عنها الدنيا.. 
لم أفوّت حلقة ذكر أو صلاة الوتر .. 
ختمت القرآن عدّة مرّات في شهر .. 
رطّبت لساني بالذكر لعلّ الله يغفر ليغيبتي وسخريتي من النّاس .. 
أحسست أنّي أكثر قرباً من أسرتي .. 
اختفت نظرات الخوف والشفقة التيكانت تطل من عيون زوجتي .. 
الابتسامة ما عادت تفارق وجه ابنيسالم .. 
من يراه يظنّه ملك الدنيا وما فيها .. 
حمدت الله كثيراً على نعمه .. 
ذات يوم .. قرر أصحابي الصالحون أنيتوجّهوا إلى أحدى المناطق البعيدةللدعوة .. 
تردّدت في الذهاب.. استخرت الله ..واستشرت زوجتي .. 
توقعت أنها سترفض .. لكن حدثالعكس ! 
فرحت كثيراً .. بل شجّعتني ..فلقدكانت تراني في السابق أسافر دوناستشارتها فسقاً وفجوراً .. 
توجهت إلى سالم .. أخبرته أنيمسافر .. ضمني بذراعيه الصغيرينمودعاً .. 
تغيّبت عن البيت ثلاثة أشهر ونصف.. 
كنت خلال تلك الفترة أتصل كلّماسنحت لي الفرصة بزوجتي وأحدّثأبنائي .. اشتقت إليهم كثيراً .. آآآه كماشتقت إلى سالم !! 
تمنّيت سماع صوته .. هو الوحيد الذيلم يحدّثني منذ سافرت .. 
إمّا أن يكون في المدرسة أو المسجدساعة اتصالي بهم .. 
كلّما حدّثت زوجتي عن شوقي إليه ..كانت تضحك فرحاً وبشراً .. 
إلاّ آخر مرّة هاتفتها فيها .. لم أسمعضحكتها المتوقّعة .. تغيّر صوتها .. 
قلت لها : أبلغي سلامي لسالم .. فقالتإن شاء الله .. وسكتت .. 
أخيراً عدت إلى المنزل .. طرقت الباب.. 
تمنّيت أن يفتح لي سالم .. 
لكن فوجئت بابني خالد الذي لميتجاوز الرابعة من عمره .. 
حملته بين ذراعي وهو يصرخ : بابا ..يابا .. 
لا أدري لماذا انقبض صدري حيندخلت البيت .. 
استعذت بالله من الشيطان الرجيم .. 
أقبلت إليّ زوجتي .. كان وجههامتغيراً .. كأنها تتصنع الفرح .. 
تأمّلتها جيداً .. ثم سألتها : ما بكِ؟ 
قالت : لا شيء .. 
فجأة تذكّرت سالماً .. فقلت .. أينسالم ؟ 
خفضت رأسها .. لم تجب .. سقطتدمعات حارة على خديها .. 
صرخت بها .. سالم .. أين سالم ..؟ 
لم أسمع حينها سوى صوت ابني خالد.. يقول بلثغته : بابا .. ثالم لاح الجنّة ..عند الله.. 
لم تتحمل زوجتي الموقف .. أجهشتبالبكاء .. كادت أن تسقط على الأرض.. فخرجت من الغرفة .. 
عرفت بعدها أن سالم أصابته حمّىقبل موعد مجيئي بأسبوعين .. 
فأخذته زوجتي إلى المستشفى .. 
فاشتدت عليه الحمى .. ولم تفارقه ..حين فارقت روحه جسده ..

0 التعليقات:

إرسال تعليق